رقيم ودهاق أوطاننا العربية (3-3) «أنا سوداني أنا.. أيها الناس نحن من نفر عمروا الأرض حيثما قطنوا»

ران على المكان عند مقرن النيلين صمت طويل، قبل تفارقنا يسأل السودانيون؟ لم أحر جوابًا . يُعيدُ عليّ صديقي الذي كنت أبتّات بمنزله شمال سفح جبل » توتيل» المنحدر من جبال التاكا إذ (شجر النيم) يحيط بنا من كل النواحي وبساتين المانجو المخضورة ، ترشحنا بنسيمها الفاغم، «أدروب» كسلا يقدم فنجال قهوته في الخامس من مايو 2018 م – أدم مقامك ورمضِّن عندنا أيها الأعرابي، وبعد عيد الفطر أحرِد مسقطك،، وسك الطريق إلى مدينتك سكاكا الجوف. بين مشرق الشمس والشمال على سفح جيلان بلدتك صوير، خلف كثبان رمالها الصفراء احتضنها حد الامتزاج، وحدثها عن سوداننا وفلسطين التي أتيتنا منها وعن بلاد الرافدين وبغدادها وسوريا وشامها واليمن السعيد وجزائر المليون شهيد, ومصر ونيلها التي تلبّنت احجورة تراقيمك وتداهيقك يا رويلي.. أيها البدوي العنيد أجب مسألتي فرمضان على الأبواب فأدم المقام في بلاد النوبة. أطرقت عينيّ لسحنة وجهه السمح المحموس بسمرة زادة من مسحة نمارة تقاسيميه العربية وقلت له: يا صديقي العربي الأصيل ألتمس منك ومن قومك الأكرمين السُّمر السودانيين قبول اعتذاراتي، فقد أزمعت أمري على الرحيل، وقربت مراكيبي علّني أصل البلاد قبل ولادة هلال الشهر الكريم. لا تقلق علي يا صديقي، لقد ولدت وجوازات السفر مضمومة بجيبي، أسُوح لثقافات البلدان العربية حاملًا زادي وزوادتي متاعًا للقارئ السعودي والمثقف السعودي والعربي أيضًا حصاد أسفاري. لعمرك يا صديقي إن تقديم مائدتي وحصيلة رقيمي ودهاقي تخفف عني عناء ووعثاء أسفاري. سأستريح طيلة الشهر المبارك وعيديّ الفطر والأضحى وبعد أن أذبح ضحيتي بحول الله تعالى سأمتطي راحلتي وأيمم وجهي إما لعمان التي ضربت فيها موعدًا مع مثقفيها الأردنيين، أو إلى تونس الخضراء ومنها للمغرب والصومال وجزر القمر وجيبوتي وموريتانيا، ثم سأعتلي جبال عالية وجونية ففي بيروت حديث للبنانيين لزامًا عليّ السمع له. وبعد هذا التطواف أختتم مأزوفتي الترحالية لبلدان خليجنا، سأقيم في أبوظبي حيناً فيا لدهشتي وأنا أحط بشاطئ الراحة وشارقة ثقافتنا العربية. بعدها أيمم شطري لكويتنا الصبوح ففي عاصمتها رقيم لم يرقم ودهاق لم يدهق سأسطر لساحرة الثمانينات الخليجية، بعدها يا صديقي ستسمع أخباري في السَّلطنة العمانية ومنامة بحرنا. فيا رفاق المشهد الثقافي والحركة الأدبية والفنية بأوطاننا العربيانتظروا «صاحبكم» بأطلولته الثقافية عبر جزيرتنا السعودية التي يترأسها صاحب المسيرة الخالدة أستاذنا خالد المالك الموقوت استهلالها في البدء الموسمي لـ»الثقافية», ستمخر الرحلة في عامها الثاني التي بوصل خريطتها المنارة مدير تحريرها الجبل الأشم أستاذنا الدكتور إبراهيم التركي. أب الأعرابي ومدرسته الاستثنائية, فلغة الشُّكر تعجز أن تبلغ سدرته.

الإعلام السوداني نظرة مسحية

أوضح أستاذ الإعلام بجامعة الملك خالد البرفيسور «عوض إبراهيم عوض» أنه في شهر أكتوبر عام 1903م أنشأ لورد كرومر أول صحيفة بالسودان أطلق عليها اسم «صحيفة السودان» وأصبحت الناطق الإعلامي الرسمي باسم الحكومة. وكانت تلك الصحيفة هي البذرة التي نشأت عليها فيما بعد مكتبة السودان. بعد ذلك ظهرت «صحيفة الخرطوم» التي أسسها سعد ياسين, ثم أصدرت «لجنة أم درمان» بعض المطبوعات والصحف على رأسها دورية باللغتين العربية والإنجليزية, بعد ذلك أصدر اثنان من الرعايا الأجانب بالسودان صحيفة «سودان هيرالد» وهي سياسية واجتماعية في آن واحد. بعد ذلك أنشأ «عبد الرحيم مصطفى غليلات» وهو أحد السوريين المقيمين بالسودان ملحقاً صحفياً سماه «رائد السودان». فيما ظلت جميع تلك الصحف في تلك الفترة مملوكة للأجانب العاملين بالسودان. وكان قراؤها أيضاً هم الأجانب الذين يعملون تحت قيادة الإدارة البريطانية, وبين أنه لم تظهر صحيفة وطنية في تلك الفترة المبكرة من عمر الاستعمار لأنه لم يكن للسودانيين دورٌ يُذكر في تلك المرحلة. ولكن في يوم 26 سبتمبر عام 1911م ظهر أول مقال لكاتب سوداني في صحيفة السودان وهو «حسين شريف» الذي اعتبر الأب الحقيقي للصحافة السودانية. وقد دعا في ذلك المقال أبناء السودان لإنشاء ناد يضم المتعلّمين بقطاعاتهم المختلفة. وكان ذلك سبباً في تولي حسين شريف فيما بعد رئاسة تحرير أول صحيفة سودانية هي «حضارة السودان».

وقال عوض: لقد أبرز دور الإعلام السوداني عندما اجتهدت الإدارة البريطانية في إذكاء روح القبلية بين الأهالي وتشجيعهم على ترك اللغة العربية وتعلم اللغة الإنجليزية. وهنا استخدم رجال العربية المس تميتون من أجلها سلاح الإعلام وقاوموا به محاولات تفتيت كيانها أو الاستخفاف بهيبتها. فكتب نفرٌ منهم في فنون العربية، من خلال الصحف الأدبية، والمؤلفات التي دعوا من خلالها للتمسك بالعربية وتخليدها وإحياء تراثها.

ولما انزاح شبح الاستعمار عن السودان بمجيء أول حكومة وطنية، بدأت الإذاعةُ السودانيةُ مرحلةً جديدةً هي مرحلةُ بناء الذات السودانية المستقلة. وأصبحت البرامج كلها موجهة لبناء الأمة السودانية وتوحيدها. وقد نجحت الإذاعة بذلك في تذويب الفوارق العرقية التي غذّاها الاستعمار عندما عملَ على استنهاض روح القبيلة التي حسب أنها ستتحقق من خلال تشجيع اللغات واللهجات المحلية دون توحيد الناس في لغة قومية واحدة.

بعد ذلك جاء التلفزيون السوداني في عام 1962م ليواصل المسيرة التي بدأتها الإذاعة. وكان عليه وهو يمارس هذا الدور أن يعمل على الحفاظ على الذوق العام لإنسان السودان الذي تنازعته شتى أساليب الاستمالة، وعصفت بتوجهاته المعرفية أرتال الثقافات الدخيلة.

الصحافة وملفات الحراك الأدبي

وحول الملفات الثقافية في الصحافة السودانية والتي أتت بعد الاستقلال مكرسة في نشرها للقصائد والمقالات وبعض المتابعات للندوات أكد الناقد والصحفي نبيل غالي أن الصحافة السياسية السيارة تفرد صفحة واحدة لها فقط. فأخذت نفس ملامح صحافة ما قبل الاستقلال، إذ لم يكن فيها أي عمق فكري إنما كانت «الأدبية» طاغية عليها. حتى حدث النضوج الإبداعي بما يطرح فيها في مرحلة الستينات ومطلع السبعينات وخصوصاً أنها اهتمت بالدراسات النقدية وقليل من الفن التشكيلي إذ اتسعت في حدقاتها بعض الرؤية الإبداعية الشاملة، من ثم كانت مرحلة السبعينات والثمانينات وهي المرحلة التي نضجت فيها الملفات الثقافية فازداد عدد الصفحات التي تعنى بالآداب والفنون, فكان الملف الثقافي الذي كان على رأس إشرافه الروائي عيسى الحلو الذي يصدر عن صحيفة «الأيام» في صفحات عديدة يفوق حجم الصحيفة نفسها. والملف الثقافي الذي صدر عن صحيفة «الصحافة. لقد كانت هذه الفترة تمثل خصوبة الصحافة الثقافية إذ صدرت إبانها مجلتا الخرطوم والثقافية السودانية, إضافة إلى عدد من الإصدارات الثقافية الأخرى الفصلية وغيرها. ثم جاءت فترة التسعينات والتي أزعم أن الصحافة الثقافية فيها قد انكمشت.

ثم جاءت مرحلة الألفية الثالثة وفي عقدها الأولى حتى منتصف العقد الثاني ازداد الاهتمام بالملفات الثقافية مما يعني أن الزخم الإبداعي في النشر اتسعت مساحته وإن ضاقت الشرايين التي تغذي هذه الصحافة.

تأميم الصحف

وبين الكاتب والصحفي «فيصل محمد صالح» أن الصحف خضعت لمضايقات كثيرة، فتوقف بعضها عن الصدور، وخضعت صحف أخرى لفترات متفاوتة من الإيقاف، كما تعرضت للرقابة والعقوبات اللاحقة في حق الصحافة السودانية في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري التي لا يزال تأثيرها السلبي ممتد حتى الآن، إذ قرر في عام 1970م, تأميم كل المؤسسات الصحفية في البلاد، وأنهى بذلك مسيرة حوالي 70 عامًا من الصحافة المستقلة. فأصدر النظام العسكري صحيفتين حكومتين هما «الصحافة» و»الأيام». واستمر هذا الوضع حتى سقوط النظام بعدها عادت الصحف المستقلة للظهور لكنها لم تستعد عافيتها القديمة أبدا. ولم تزل التجربة مستمرة رغم السماح بصدور صحف خاصة.

الغناء السوداني الكنز المخبوء

مساحة السودان الشاسعة ماثلها تنوّع فريد في موسيقاه، فبينما تسود آلة «الطمبور» في الشمال مثلا، نجد أن دارفور وكردفان تمتازان بموسيقى فيها مذاق الموسيقى العربية السباعية السلّم. أما الجنوب فظل إلى حد كبير محافظاً على موسيقاه الإفريقية الخاصة التي تتسم بالأداء الجماعي عموما وترتبط بالطقوس. هذا وقد ظلت الأغنية السودانية تمثّل رافداً ثقافياً مؤثراً في داخل السودان ومنطقة شرق أفريقيا وغربها، بينما ضعف تأثيرها العربي لأسباب عديدة.

الكاتب والناقد «مهدي يوسف إبراهيم» قال الغناء قديم عندنا – أهل السودان – قدم الأرض والنيل، ولكن المعروف لدينا أن الأماديح الصوفية كانت سائدة آناء مملكة الفونج، التي كانت تؤدى بصورة جماعية، ويستخدم فيها المادحون آلة «الطار». وبعد دخول الأتراك إلى السودان في العام 1821م, بدأ شكل المجتمع السوداني يأخذ شيئاً من التمدن، فظهر التعليم، وصاحب ذلك ظهور الأغنية المنفصلة من المديح النبوي. فظهر عدد من المغنيين والمغنيات أبرزهم «شريفة بنت بلال» التي منحها الحاكم التركي عبد القادر حلمي مرتبة عقيد في الجيش نسبة لدورها في رفع معنويات الجنود في ذاك الزمان. لكن بعد قيام الثورة المهدية في العام 1881م, أصدر الإمام المهدي فتوى بتحريم الغناء والرقص في الأعراس، وصارت الحياة موجهة للجهاد وبالتالي لم يسد سوى المدح النبوي والدوبيت. وبعد أنشاء مدينة أمدرمان – العاصمة الوطنية – حدث الدور المهم في الثقافة السودانية, أما الخرطوم فقد ظلت في ذلك الوقت تحت سطوة الثقافة التركية المسيطرة عليها بصورة طاغية.

وبعد سقوط المهدية في العام 1898م, ودخول الانجليز إلى السودان، ظهرت الأغنية بصورة أكثر سطوعاً، فبرزت أغنية اصطلح النقاد الفنيون على تسميتها بأغنية «الحقيبة». وسميت بذلك لأن الأغنيات كانت تسجّل في القاهرة وتحضر أسطواناتها في حقيبة. يقول «أبو صلاح» وهو أشهر شعراء الحقيبة:

من هواك أنا جسمي دايمًا في ارتعاد

أما نومي الفرّ ما منظور يعاد

يكفي وجدي يكفى هجري والبُعاد

ثم ظهرت الآلات الحديثة في الغناء السوداني في ثلاثينات القرن الماضي. وظهر الفنان «إبراهيم الكاشف» والمدهش أن الرجل كان أمياً ولم يكن يعزف أية آلة موسيقية، وإن لم تخني الذاكرة فهو أول من تغنى «بأوركسترا» كاملة. وحين جاء الكوريون ونفذوا بعض الأعمال الفنية السودانية منوتة، كان للكاشف نصيب كبير منها. لعل من أبرزها أغنية «رسايل «:

حبيبي اكتب لي وأنا أكتب ليك

بي الحاصل بي و الحاصل بيك

كما ظهر الشاعر والملحن «عبد الرحمن الريح» وهو أكثر شعراء الأغنية السودانية إنتاجاً. أيضاً شكّل ظهور الفنان الكبير «عثمان حسين» علامة مهمة وحاسمة في تطور الغناء السوداني، فتحرر كثيراً من الألحان الدائرية وأحدث ثورة في المقدمات الموسيقية، ولعل أغنيته «الفراش الحائر» تشكّل نقلة نوعية في الألحان السودانية وأيضاً رائعته «محراب النيل» للشاعر العظيم «التجاني يوسف بشير»:

أَنتَ يا نَيل يا سَليل الفَراديس

نَبيل مُوَفق في مَسابك

ملء أَوفاضك الجَلال فَمَرحى

بِالجَلال المَفيض مِن أَنسابك

ثم كانت محطة العملاق «محمد وردي» الذي تفوق على «عثمان حسين» في خصوبة مقدماته الموسيقية، بجانب طرقه لمدارس شعرية أخرى مثل الغناء الرمزي.

وأحب أن أشير إلى أنه لا يمكن إغفال دور «إذاعة أمدرمان» التي ساهمت في نشر الأغنية السودانية إلى كافة ربوع السودان. وكذلك «التلفزيون». وفي فترة السبعينات ظهرت البلابل – ثلاث شقيقات – شكلن مدرسة فنية راسخة في السودان، كما ظهر مصطفى سيد أحمد الذي دخل معه الغناء السوداني طورًا جديدًا من الغناء الرمزي العميق الجاد.

وأضاف «إبراهيم» تمتع السودان – ولا يزال – بتنوّع دفيق في اللغات واللهجات. لكن مدينة أمدرمان لعبت دوراً كبيراً في خلق أغنية تبنت مفردة «الوسط»، وهي مفردة مفهومة لكافة أهل السودان، و فيها الكثير من تأثير الفصحى. يقول عوض أحمد في رائعة «خاطرك الغالي»:

أسال عليك الله ونجمو وحتى أنوار الصباح

وكل طاير في سماهو في شريعتو الحب مباح

أسال مشاعرك عن هوانا وليه غرامك ليّا راح

خليتني في غاية الألم آمالي تذروها الرياح

أما على سبيل الأداء وتنوّع طرقه لدى مغنيينا فسأكتفي بمثال واحد (الصوتية الهائلة) لـ»عبدالعزيز داؤود» الذي قال عنه محمد عبدالوهاب «هناك صخرتان في العالم العربي وديع الصافي في لبنان وعبد العزيز داؤود في السودان».

محدود وغير مفهوم

ختامًا أشير بأن الأغنية السودانية منتشرة جداً في شرق إفريقيا وغربها ولكنها ذات تأثير محدود في المنطقة العربية. ويزعم البعض أن السبب يعود إلى السلُّم الخماسي الذي يتبناه السودانيون عكس السلُّم السُّباعي السائد في المنطقة العربية. لكن هذا قول مردود، فالجمهور العربي يطرب للأغاني الهندية ذات السلُّم الخماسي. كما يزعم البعض أن السبب يعود إلى أن المفردة السودانية غير مفهومة، وهذا القول فيه قصور لفهم الغناء ككائن شفيف لا يعتمد جوهرياً على الكلمة. لكن حتى لو سلّمنا بصحة هذه الفرضية فالمفردة السودانية لأغنية الوسط هي أقرب المفردات إلى العربية الفصحى. وأغلب الظن أن الأمر يعود إلى ضعف الإعلام السوداني وعجزه عن تسويق كنوز بلادي للجمهور العربي. وربما يعود الأمر كذلك إلى إشكاليات أخرى متعلقة بهوية أهل السودان ومنظور العرب لها، و هذه منطقة شائكة تحتاج الكثير من البحث والتقصي.

حفلة «الكنداكات» والصوفية

أما الدكتور كمال يوسف علي فشدد على ما عُرف به السودان ضمن ما يوسمون به بحبهم للفنون وارتباطهم بها منذ عصور ما قبل التاريخ وإنسان العصر الحجري، الأمر الذي يضرب عميقاً في تاريخ حضارة الإنسان لما يعود لآلاف السنين قبل التاريخ الميلادي مروراً بحضارات «كُوش ومروِي» وما يشهد لها الآن من أهراماتٍ ومُدنٍ قديمة وقال: إنه إلى جانب ما تبقى من نقوشٍ ورسم على جدران المعابد يشهد على وجود تلك الآثار، يمكننا أن نستنبط من صناعات الأواني الفخارية ومن بناء الأهرامات وما فيها من جماليات أن ذاك الإنسان لم يك صامتاً، فانتظام الإيقاع في الرسم على الفخار وفي زوايا وحنايا المبنى يدلّل على قوة و ثراء النغم في المعنى، فحشود احتفالات الملوك و»الكنداكات» وطقوس المعابد والكهنة تشي بهدير ألحان المدح والتمجيد والترانيم، التي تمددت على مرّ حقب تاريخ السودان فانتقلت إلى طقوس المسيحية في قرونها الأولى في السودان وبعد ذلك في الإنشاد الصوفي والمدح النبوي في الإسلام، وظلت بذلك كل هذه الوسائط أوعية حملت سمات وخصائص موسيقى السودان القديمة من إيقاعٍ ونغم إلى موسيقاه وغنائه الحديث.

المسرح بين الطقوس والزار

نشأ مسرح السودان وتأثر نتيجة الاحتكاك الفني بالمسرح المصري والثقافات والمشاهدات الفنية الأخرى كالشامية والإنجليزية وكشف الدكتور «شمس الدين يونس» الأستاذ بكلية الموسيقى والدراما المتخصص في مجال النقد ومدير المسرح القومي أن العديد من الباحثين والمهتمين يرجعون أصول المسرح في السودان إلى الأشكال والممارسات الطقوسية الدينية والشعبية والاجتماعية التي عرفتها الحضارة السودانية الكوشية، بينما أرجع آخرون أصلها للممارسة الطقوسية كالزار ورقصة العروس، ثم تطور هذا النشاط نتيجة لاحتكاك السودان بغيره من الثقافات الأخرى مثل الثقافة المصرية والشامية والإنجليزية، هذا الاتجاه يعتبر الاهتمام النسبي بالمسرح في السودان بدأ في العام 1880م أو خلال ما يُعرف بمسرحة التاتو. فكانت هذه الإشارات تمثّل الحافز للعديد من المثقفين السودانيين ورجال التعليم إلى بداية الحديث عن أو ممارسة هذا النشاط الفني الذي لم يكن معروفاً لدى السودانيين من قبل.

وأضاف: ثم ظهر ما يُعرف عند دارسي تاريخ المسرح في السودان بمسرح الجاليات الذي يؤرّخ له في الفترة من 1905- 1915م، تلك الفترة التي شهدت نشاطاً فنياً وثقافياً كبيراً تمركز في الجمعيات والأندية التي يجتمع فيها أفراد تلك الجاليات، فكان التمثيل فيها يتم تبعاً للجنسيات المختلفة بلغات مختلفة مثل العربية، والإنجليزية، والفرنسية وغيرها. غير أنه لم يكن متاحاً للمواطن السوداني المشاركة في هذا النشاط أو حتى حضور تلك العروض المسرحية إلا فئة قليلة هم طلاب كلية غردون التذكارية، الذين ارتبطوا بهذا النشاط وتأثروا به ما حدا بإدارة الكلية أن تكون أول فرقة للتمثيل من الطلاب. فكان عبيد عبد النور الذي درس بالجامعة الأمريكية بيروت، قائدًا لهذا النشاط المسرحي الذي بدأه بتقديم بعض التمثيليات القصيرة المقتبسة من أعمال غير عربية، فكانت هذه أولى الإشارات ذات الدلالة الأكثر تعبيراً عن قيام نشاط مسرحي، وتمثّلت بذلك أولى ملامح المسرح السوداني الحديث الذي تأثر بالثقافة والقيم والمشكلات التي يعالجها فأصبح بالتالي أكثر حاجة إلى أن يقترب من لغة الحياة اليومية. فتحركت حركة المسرح السوداني في تطور فني جديد نحو استخدام المسرح في تجسيد أفكار أساسية أو ظواهر اجتماعية تستهدف استثارة المشاهد فكان أول عمل اجتماعي- سياسي مسرحية « المأمور والمفتش ورجل الشارع» 1919م التي تصور استبداد رجال الإدارة بالمواطنين وخوف صغارهم من كبارهم مما عرض عبيد عبد النور للمساءلة من قبل مدير المخابرات الذي أمر بإيقاف التمثيليات بدعوة خطورتها على الأمن.

«حياة الرجل بين الزوجتين»

وتابع «يونس» قاد ذلك إلى تطور آخر في إعداد الأعمال المسرحية بكلية غردون، إذ اتجه – على يد رئيس شعبة التمثيل عوض ساتي – نحو المسرحيات التاريخية والمترجمة فكانت مسرحيات «عطيل» و»مجنون ليلي» محاولات خلق جسر بين الجمهور والنشاط المسرحي الهادف إلى كسر العزلة السياسية وخلق صورة عامرة بالبطولات والأمجاد التي يتطلع إليها الشعب السوداني بقوة تحت وطأة الاستعمار الساعي لفصله عن ماضيه وواقعه ومستقبله، فكان نشاط الأندية الذي قاده نادي الخريجين بأمدرمان وضم كافة قطاعات الشعب المثقفة، إذ بدأت تقدّم الأعمال التاريخية والبطولية مثل «صلاح الدين الأيوبي»، «عطيل» وبعد أن دبت الخلافات والانقسامات بين الأحزاب السياسية انعكس هذا الصراع على نشاط نادي الخريجين فأهمل النشاط المسرحي وأصبح الاهتمام بالسياسة يأخذ الحيز الأكبر، وتوقف النشاط المسرحي تماماً بعد العام 1924م . ثم ما لبث أن عاد في العام 1931م, بتقديم المسرحيات التاريخية أيضًا مثل «وفاء العرب», «فران البندقية» التي يمكن وصفها بأنها شكل مسرحي أقرب إلى الميلودراما التي تقوم على تبني القضايا الاجتماعية السهل وصولها للناس. كذلك تفعل النشاط المسرحي ببقية الأندية الثقافة كنادي خريجي المدارس بالخرطوم ونادي الضباط بالخرطوم والذي تميز بتقديم المسرحيات المصرية «أميرة الأندلس», «محمد علي بك الكبير» ضمن أعمال فرقة «شوقي الأسد» للتمثيل. ولم يكن نادي «حي العرب» بعيدًا عن هذا النشاط المسرحي، إذ بدأ نشاطه المسرحي بمسرحية «حياة الرجل بين الزوجتين» التي كتبها «الخليفة يوسف الحسن» بالشعر القومي وبعدها تسلسلت الأجناس الفلكلورية في المسرح السوداني، وقد مهدت هذه المسرحية لظهور نشاط مسرحي بنادي الزهرة بعد أن أسس خالد أبو الروس فرقة للتمثيل بدأت في تقديم المسرحيات السودانية مثل «مصرع تاجوج والمحلق» و»خراب سوبا «.

وحدة أفلام السودان

وفي مجال فني آخر قريب أوضح السينمائي إبراهيم شداد أن وحدة أفلام السودان المؤسسة عام 1951م, والتي جاء إنشاؤها تحت عموم تطورات ما بعد الحرب العالمية الثانية. فأنجز الكادر السوداني تحت إشراف ضابط الإنتاج البريطاني أفلامًا مثل «ألوان الزهور, كما أنجز بارى ماثيو بعد ذلك أفلامًا أخرى كفيلم «الحكومة المحلية» وقد تضمن الفيلم عرضًا شاملًا لأعمال مجالسنا البلدية. وفيلم «قطن الجزيرة» عن قطن مشروع الجزيرة كيف يجنى ويحلج ويكبس.

صارت وحدة أفلام السودان أحد مكونات مصلحة الاستعلامات والعمل. وصار الخير هاشم أول رئيس سوداني لها. فأنتجت بعضا من الأفلام التسجيلية في موضوعات مختلفة بدأت في عام 1957م, في إنتاج الجرائد الإخبارية. وكان هذا الإنتاج يعرض في دور العرض العامة العديدة في المدن وأيضاً في الريف السوداني بواسطة «وحدة السينما المتجولة». وفي سنة 1958م, أنتجت الوحدة فيلم «يوم للذكرى» كأول فيلم بالسينما سكوب.

وقال «شداد» لقد أخذت قدرات الوحدة في النمو وفي أواخر الخمسينات وذلك في ظل برنامج المعونة الأمريكية بعد إضافة معدات سينمائية مختلفة وعديدة وتأهيل عدد من الموظفين في شتى مجالات العمل السينمائي بالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. فأنتجت الوحدة عشرات الأفلام القصيرة. فاستمرت الوحدة باسم إدارة الإنتاج السينمائي في إنتاجها للأفلام القصيرة وفي الفترة من 1970 -2009م, وتم إنتاج سبعة أفلام روائية طويلة أهمها فيلم «أحلام وآمال», «تاجوج», «وبركة الشيخ» بالإضافة إلى أفلام رواية قصيرة لكاتب هذه السطور فيلم «الجمل وفيلم الحبل».

وفي ختام هذا الجزء نشير بالشكر والتقدير لجميع من تواصل مع «المجلة الثقافية» من جمهورية السودان الشقيق أو من المثقفين في السعودية سواء بالمراسلات الخاصة أو الاتصالات تفاعلاً مع عنوان الجزء السابق (عبر تخالس قاطرة التمفصلات لأعقاب السمر النوبية تضتج أصماخنا بركحويات لاتعترف بغير التصوحات السودانية)

والذي من خلاله كنا نرمي النظر خلسة «مشرئبين بزهو» لمقطورات المراحل المفصلية – وهنا كنا نوحي للقاري وسيفهمه من المقدمة والمادة – أننا نشيد بكل اعتزاز لمسيرة وأثر أعقاب الرجال السمر النوبيين من زمن جدهم البعيد «بعانخي» والحضارات (كوش، مروي ..) والتي تضج بها أسماعنا حين نصيخ لها السمع طوال كل هذه المسيرة الحافلة وما تخلفه الأعقاب (الأقدام) حتى عصره الحديث وصداها في الساحات التي لاتعترف سوى بنشوة مانسمعه بعروبة هذا البلد. وفي هذا الجزء الأخير الذي نختم به ما يؤكد على هذا المجد والإعتزاز به. مثل هذا التفاعل بين المجلة وقرائها هو الوقود الذي سنمضي به في مواصلة الرحلة بين بقية دولنا العربية التي لم تصل لها المجلة الثقافية بعد.

20