خوجة «1-3» : حقائبي الدبلوماسية وترحالي طويلاً أسجرا في تكويني ذروة الغربتين «الروح والمكان»

2016-12-03-photo-00000004يحمل حقيبة للدبلوماسية, وحديقة شعرية, في أوجنة وفائفها تشبه فؤاده النصعاني البياض المختمر بالأقداح المستبكة على مفردات الشعر الأصيل, بمنهجه يقارع المتنبي والفرزدق وأحمد شوقي وغازي القصيبي أكاليله في السياسة مورفة ومفرداته الهامسة غناء بين جوانحه أوسمة الشعراء الجاهليين والحداثيين وقلائد التصدر, يميل بنا من أعالي ثلوج جبال روسيًا ليحطنا على شطآن بيروت, على جسر «البسفور» يسامر النهر وعلى أبواب جامعة القرويين له مفاتح الخلدنة المنهجية الدبلوماسي الأديب الشاعر معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة لا أبالغ إذا قلت إنه آخر المدارس في الشعر السعودي, هو أول من خط وخطط للمدرسة الشعرية السعودية للمدائن الشرقية والغربية, عكس شعاع الشمس في أقصى المشرق فوق قمم الجبال واجتذب ضوء القمر للمغرب في خد حسناء جعلها ملهمته الكونية.

الثقافية في الجزء الأول من الحوار تصافح قراءها بيد وزير إعلامها السابق الذي لم ينصفه الإعلام من خلال تسليط الضوء على تجربته الشعرية الفردانية الممهورة بقدسنة الأرتاج ونفسنة خلائج المحار والاثباج السفير الراهن المرتحل بين الأسفار والأقمار والكواكب الدرية في المشرق والمغرب إنه معالي الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة فهاكمو شيئًا من مجراته ومداراته.
* عملت دبلوماسيا ووزيرا وسفيرا للمملكة في عدد من الدول من قمم جبال روسيا إلى شواطئ بحر بيروت مرورا بجسر بسفور تركيا انتهاء بحدائق «مينارا المغرب» وكان الشعر حاضرا في رياضها وتضاريسها ، فجغرافية الخوجة تمتاز بأممية المدرات والعروج إلى مدى قد استباحت شرعة الغربة مدائن «شاعرنا الإنسان»، وهل نزعم القول بأنها مهرته بصك الوطن الفسيح الإنسانية وجلاوة غبش المحدودية والزج به في مصافحة عقيدة البياض؟.
– أنا لا أنكر البتة أن عملي سفيرا لبلدي في دول مثل روسيا وتركيا والمغرب ولبنان، قد منحني زخما إنسانيا لا مثيل له. وذلك من خلال تعرفي على حضارات بشرية مختلفة في هذه الدول العريقة التي مررت بها، ومن خلال تمازجي واحتكاكي بثقافات إنسانية متعددة. ولا شك أن مثل هذه التجارب الثرة تضيف الكثير إلى خبرات الإنسان، وتضع بصماتها الواضحة على شخصيته. أما إلى أي مدى قد استباحت شرعية الغربة مدائني كشاعر، فأقول إن الغربة حالة نفسية وليست جسدية، والحمد لله أن ابتعادي عن الديار لسنوات طويلة لم يزدني إلا تعلقا بالوطن الحبيب. نعم تزداد جرعة الشوق ولوعة فراق العشيرة والأصدقاء ومراتع الطفولة والصبا والشباب ، لكن ذلك يمنح الإنسان مزيدا من القوة العاطفية في حبه لوطنه الحبيب وعشقه لأهل بلده الطيبين. ولعل ذلك البعد يصبح للشاعر بمثابة دافع معنوي، وشحنة روحية دفاقة، تدفعه لمزيد من العطاء وترفد إبداعاته بإضافات ثقافية وجمالية عميقة ومتجددة. ولا شك أن الغربة التي في داخلي نوعان. الغربة التي عشتها متنقلا لسنين طويلة، وامتدت إلى حوالي أربعة عقود، سواء كطالب أو سفير، فجرت في داخلي الكثير من المشاعر الممتزجة بالبعد والغربة، وفجرت فيَّ أحيانا أخرى تلك الغربة الداخلية التي يعيشها الشاعر. وأنا قد جربت مشاعر سندباد الذي اشتط عن موطنه، وكتبت عن غربتي في قصيدة طويلة بعنوان (غربة). وكثير من قصائدي فيها شيء من الحزن والغربة الداخلية، وهذه هي مشكلة الفنان المبدع، أي الغربة التي تلاحقه دائما حتى وهو بين أهله وذويه، فهو يهرب من غربة إلى غربة، ولكن يظل حزن الغربة الرفيف يسكنه دائما، فإذا اجتمعت الغربتان، غربة المكان وغربة الروح فإن الأمر يبدو مدعاة للحزن والشجن وقد حملته إحدى قصائدي «غربة» :
هَزَّكَ الشَّوْقُ يا طَرِيدَ المَسَارِ
واسْتَبَاكَ الحَنِيْنُ في الأسْحارِ
صائدَ الحُسْنِ منْ ثَمِيْنِ الغَوالي
قانصَ البَدْرِ في قَصِيِّ المَدارِ
يا طَلِيْقاً في المَشْعَبِ الحُرِّ يَزْهُو
زَجَّكَ الوَجْدُ عُنْوَةً في الإسارِ
فلقدْ صادتِ الظِّباءُ صَؤُوْلًا
والمَها حُرَّة تَجُوْسُ البَراري
اهاةُ اللَّيْلِ في ضُلُوْعيَ نارٌ
وأنِيْنُ الجَوَى صَدَى الأوْتارِ
إلى أن أقول :
قدْ ذَرَعْتُ الزَّمانَ شَرْقاً وغَرْباً
سِنْدِباداً قدْ ضاقَ بالأسْفارِ
غُرْبَتِي طالتْ والأماني صَداها
وَيَبابُ الجُنُوْنْ صَوْتُ سَعارِي
* عاصرت الأمير الراحل صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل سفيرًا في تركيا عام 1982 ثم سفيرًا في روسيا الاتحادية ثم انتقلت للسفارة السعودية في المغرب ثم سفيرًا في لبنان ثم عاصرت الفيصل في مجلس الوزراء السعودي عندما كنت وزيرًا للإعلام، ثم عدت للمغرب من جديد.
* كان الفيصل عميد الدبلوماسية بالعالم واسع الاطلاع والمعرفة، كيف استطاع هذا السياسي المحنك الحصيف تصدر المشهد الثقافي والفكر السعودي للعالم من خلال حقيبة الخارجية؟ وعن معاينتك له عن كثب وملازمتك اللصيقة لسموه صف لنا تجربتك في مدرسة هذا العملاق وبعض مواقفه الشخصية معك؟.
الفيصل القبطان الأمهر الذي أجاد التجديف بالسفينة في هدأة الموج أو ازبداده وشيطنته،
لقد كنت من المحظوظين الذين كتب لهم أن يتعرفوا عن كثب على الراحل صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل طيب الله ثراه، الذي كان رجل دولة محنكاً ومن الطراز الرفيع، إذ اتسم يرحمه الله بالحكمة والكياسة والحصافة وبعد النظر. كما كان واحدا من ألمع وزراء الخارجية في العالم، إذ امتدت خبرته لحوالي أربعين عاما اكتسب خلالها تجربة عميقة في السياسة الدولية، حيث قاد سفينة الدبلوماسية السعودية في مراحل هامة من تاريخ المملكة، واستطاع أن يوجه دفتها بكل مهارة واقتدار في محيط إقليمي وعالمي متلاطم الأمواج، واستطاع أن يكون خير مترجم لتوجهات المملكة وسياساتها الخارجية، كما كان – يرحمه الله – منفذا أمينا لتوجيهات القيادة الرشيدة في المملكة في مختلف القضايا والملفات الشائكة عربيا وإسلاميا وإقليميا ودوليا. وقد لمست في سمو الأمير الراحل مقدرة فائقة وطاقة استثنائية للعمل في مختلف الظروف وتحت جميع أنواع الضغوط والمصاعب، إذ كانت له قدرة على تحمل قضاء ساعات طوال لدراسة هذه القضية أو تلك، ولتدارس مختلف الملفات والوقوف بصبر وأناة على تفاصيلها الدقيقة، ثم توجيه مساعديه والمتابعة لاحقا لمعرفة كل ما يحيط بما يعرض عليه من معلومات.
أما عن الجانب الشخصي في سموه، فقد كان إنسانا بمعنى الكلمة في تعامله مع كل الذين حوله، من خلال الحرص على تمثل الأخلاق الفاضلة والخصال الطيبة والشيم الأصيلة التي يتحلى بها. لقد كان سعود الفيصل مدرسة في السلوك والتعامل والرقي، وقمة في العطاء والتفاني والإخلاص لقيادته ولوطنه ولمسؤولياته الثقيلة التي تحملها بتجرد وصبر لا مثيل لهما، حتى خلال الأوقات العصيبة التي لم تكن فيها صحة سموه على ما يرام. رحم الله سموه بقدر ما قدم لدينه ولوطنه ولشعبه ولأمته، فقد كان الرجل قامة لا تطال وترك رحيله فراغا كبيرا في قلوب كل محبيه وكل من عرفه في المملكة وخارجها.
اختارني الشعر ولايروم شريكا ألبتة.. المبدعون يحاولون فك طلاسم الكون واستسرار النفس البشرية
* الراحل حامد حسين دمنهوري الأديب والشاعر الكبير اعتبره النقاد الرائد المؤصل لفن الرواية السعودية، وقد كان قبلها شاعرا رومنسيا بيد أنه اكتشف بأن رسالته الأدبية في الرواية فغادر الشعر! لمَ شاعرنا الخوجة لم يتجاوز بحبوحة الشعر لمحراب الرواية؟ هل ثمة صعوبة في تجاوز الشعر هذا التوأم السيامي لروح الخوجة والملتزب بها حد الاعتجان؟ أم هناك اعتبارات خفية ذات معايير باذخة الكلفة تحسر من فتح هذا السد الذي أشبه بصعوبته من سد ذي القرنين! خصوصا وأنت القائل وما أصعب مغادرة الشعر؟!.
حقيقة أجد أن الشعر والرواية والقصة القصيرة ومختلف فنون الإبداع، كلها وسائل تعبير أدبية وثقافية متنوعة. ولعل الخيط الرفيع الرابط بينها هو أن مبدعيها يحاولون فك طلاسم الكون وخفايا النفس البشرية، من خلال سعيهم لترجمة الرسائل الغامضة والمكشوفة والواضحة والمرموزة، التي يتلقونها من وحي خيالهم الجامح ومن معايشتهم للواقع الأكثر جموحا. ويبقى شكل اللغة التي يترجم بها المبدع شاعرا أم قاصا أم روائيا، أم تشكيليا أم موسيقيى، مسألة اختيار، أو قل إن كل واحد منهم يجد نفسه مرتاحا وهو يسير في إحدى هذه الدروب المتشابكة، ومنهم من يصول ويجول في أكثر من سبيل، مما يؤكد قدرة المبدع على التنقل بيراعه وريشته في مختلف دروب الإبداع. أما أنا فقد ولدت شاعرا، وأنا والشعر صنوان، هو في داخلي وأنا في داخله، وأنا لا أحب أن يكون لي معه شريك وهو لا يريد معي شريكاً.
*معالي السفير وحداوي الهوى «نادي الوحدة»، وقد انتهجتم التهنئة لجميع الأندية حين انتصاراتها بيد ثمة فردية في عملكم هذا بينما إن رمنا المكاشفة والمصداقية فالبعض من المحسوبين على الإعلام الرياضي بقنواته المتعددة قد أذكى من ضراوة الصراع «الشارع والجمهور والأندية» ولانجد من يثرب أعمالهم ضمن قوانين صارمة تسعى لخلق مناخ التوازن، بل نرى التضخم مما يعكس لغة الشحن على الجميع والدوران في حلقة مفرغة دون الحد من هذه الظاهرة. لمَ لمْ تنتهج الوزارة خلال فترة توليكم مشروعا إعلاميا يكون أرضية خصبة وصحية للوقوف عليه؟.
يمكن لأي مسؤول تشجيع الأهلي والاتحاد، ولابد من تصحيح الوضع الخاطئ قبل نشوء ظاهرة «الهوليغانيرم». من الأخطاء التي لا تغتفر في مجال الرياضة بجميع أنواعها، أن يعتقد الجمهور وبعض الإداريين الذين تعوزهم الحكمة، أنها مجال للصراع والتطاحن والتناحر. فالرياضة فن نبيل تقوم مبادئه على التنافس الشريف وتكريس قيم التسامح والتصافي واللعب النظيف، لأن دور الرياضة الأساسي يتجسد في ترسيخ الروح الرياضية والأخلاق النبيلة والمبادئ الفاضلة والمثل العليا، قبل التفكير في حسابات الربح والخسارة والنصر والهزيمة. وإذا كان هناك من الإداريين والإعلاميين في ساحة الرياضة، وخاصة كرة القدم، يعملون على نشر الكراهية والبغضاء من خلال الشحن العصبي والنفسي، وتصوير المنافسات والمباريات وكأنها معارك حربية بين أعداء، فلابد للجميع أن يتحركوا لتصحيح هذا الوضع الخاطئ، قبل أن نفاجأ ذات يوم بان هذا الشحن سيتحول -لا قدر الله- إلى تعصب بين الجماهير، مما سيولد ظواهر سلبية كعنف الملاعب و»الهوليغانيرم» أي الشغب، الذي نحمد الله أن ملاعبنا السعودية تخلو منه في وجود جمهور رياضي مسالم، يشجع أنديته بروح رياضية وحضارية راقية. ودعنا نتحدث بصراحة فليس عيبا أن يشجع المرء فريقا دون فريق، حتى لو كان هذا الشخص مسؤولا في الدولة، لأن هذه مشاعر طبيعية، وأنا ابن مكة المكرمة، ولم يكن أمامي غير فريق الوحدة الذي أتمنى أن يفوز كلما خاض مباراة أو شارك في منافسة، وهذا الوضع موجود في كل مكان بالعالم، وفي كل أنواع المسابقات. فهذه مشاعر إنسانية لا ينبغي أن نتهيب منها، ويمكن للمسؤول مهما كان مركزه أن يشجع الاتحاد أو الأهلي أو غيرهما فتلك مشاعر طبيعية، لكن المهم هو الرقي في ترجمة هذه المشاعر بالروح الرياضية الطيبة. وكل مكسب في جميع الألعاب الرياضية هو مكسب للوطن في النهاية. فحينما يفوز منتخب المملكة فإننا نفرح كلنا مهما كانت انتماءاتنا الأخرى، وحين ينهزم فكلنا يحزن، وهذا شيء طبيعي.
* «أخيراً قتلت القمر, وواريته جثّتي, فأضحى كلانا حجر». هنا تعتلي لغة التوتر الوجداني وتستطير روح الخوجة للغة الخلاص فنجده يطيش بصحائف الغزل ويتخفف من صرخة الجسد ولعنة النزوة الحسية ليقبل بشراهة على الارتماء في فردوسية الحب الحقيقي لا الأرضي الذي تنتابه أكوام العلائق والنقصانية إذ يقول:
براني غرام لا سبيل لوصفه… وكلّ غرام في سواكم تبدّل.
ثمة روح خوجية صوفية تأن عطاشى لمنهلية هذا المدام لتستاف كروم النور والعبير من نبعويته البكر وغدرانه الدافقة بلانهيانية أو حسور فتراه ماشقاً مهنده بضراوة كي يستبيح لنفسه شرعة قتل اللغة السفلية في ذاته وقمره ويحيلهما أمام ناظريه حجرا أصم بدافع خثرة بعثة الحياة في وريد بحره وحبره جراء قصور اللحاظ لما هو أسمى وأنبل، فنجده يعلو ويخامر اللطائف القدسية فاضا سدرتها، ميمما نحو العروج السماوي بقضه وقضيضه محاكيا شعراء الصوفية في نهجهم:
إني وهبت جناحه وحنانه
وجنونه وجميع ما تتلو الشفاه
وهتفت إني عاشق ومتيم
هذا الهوى المجنون
لا ندري مداه
هذا أنا ما بين مجرى
العطر حتى منتهاه
في رحلة قدسية غيبية
أجلو بها صنع الإله
وأعود حتى أعتلي
أقصى المنى في مرتقاه
وكأنني من مرتقاه لمنتهاه
هوى تناثر في سناه
فأضاعني وأعادني وأذابني
ونهلته شهداً تقطر من لماه
وعرفت أن الحب مرهون به
وهتفت وارباه لا أحد سواه
ولايلام الخوجة في هذا التخلي عن كل قمر والمضي نحو درب حبه الأزلي إذ يقول:
نعم أضحى غرامك كل وردي.. وكل دقيقة تغشى وجيبي
بتنا كالآلات والحجارة ندهس الرومانسية والإنسانية تقتيلاً وتمزيقاً
* لقد صدق قول ابن الرومي: «إن للعشق لغة لا ينطق بسواها، ولا يفهمها إلا أهلها» بين الانفتاح على حب الإله وحب ما سواه تتهشم كل التعلقات المظروفة بالسفلية وتنطرح نحو الدروك السفلى حدثنا عن المفارقة هنا وأوغل تجليا أيها الشاعر الصوفي؟.
ربما تكون قصيدة (أخيرا قتلت القمر) هي صدمة الشاعر في عصر تحول الإنسان إلى آلة تعمل ليل نهار حتى تعطب ثم يلقى بها في النفايات. أدركت أننا جميعا قتلنا القمر ، قتلنا الرومانسية الرقيقة، قتلنا الإنسانية فينا وأصبحنا حجارة أو حديدا نلهث طوال الوقت خلف لا شيء. تحجرت قلوبنا وانقطعت أواصرنا، وفجأة يجد الإنسان نفسه أمام القدر المحتوم ،حيث لات محيص. إن رحلة الحب لدى الشاعر طويلة تبدأ بحب نفسه وسيطرة الأنا عليه حتى الممات أحيانا:
مت يا أنا أو كف عني للأبد
نفد الجلد إما على جمر اللظى قدماي أو فوق البرد.
ثم يكتشف حقيقة الصراع الأزلي والأبدي في الإنسان وفي كينونته لكي يحافظ على هذا التوازن، ويخرج الإنسان على هذا التوازن مرات ومرات ويعود، والله ذو مغفرة واسعة. إن شعري هو انعكاس هذا الصراع. وكل حب وكل عشق له نهاية، ولكن هناك أيضا حب وعشق ليس له نهاية ولا حد له، إذ يظل العاشق مسافرا فيه، في رحلة لا يعرف مداها أو منتهاها، وإذا عرف الإنسان هذا الطريق، يجد أمامه كل طرق الحب معبدة له، ولابد له أن يتفاعل مع الوجود حوله، الإخوة، الأب، الأم، الأب والأهل، ويعرف نوعا جديدا من الحب والألفة، ويحب ألعابه حتى يكبر قليلا وينضج ليعرف الحب أكثر فأكثر ، وتختلط في كثير من الأحيان الشهوة مع الحب، ويكتشف فجأة خبايا نفسه ويصرخ:
قلبي المركب من شياطين وطين
وعجينة ممزوجة بالنور واللهب المذاب
كيف التوازن في معادلة الحساب
إني رضعت براءتي من ثدي أمي في نقاوة برعمي
وخطيئتي من ثدي دنياي ومن شفة كأحلام العسل
وانصب في مجرى عروقي في دمي
هذا المزيج من الشراب
حتى تكون ما تكون من أنا.
هذا أنا وهكذا أنت وهكذا الناس، والشاعر أحيانا يترجم هذا الصراع بصور مختلفة. والأفكار كما يقول الإمام الشافعي ملقاة على قارعة الطريق، لكن السؤال يكمن في مدى قدرة المبدع على الإدهاش. وذلك أمر ليس سهلا ولا هو باليسير، بل أشبه بالفتوحات النورانية التي إما أن تأتي وتضيء وإما أن لا تأتي البتة. أو لم يقل النفري كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة:
لِلهَوى ، قُلتُ : شُؤُونُهْ
والصِّبَا تَزْهو فُتُونُهْ
واغْتِرافُ الوَصْلِ مِنْ أُنثى
لَهُ أَيضًا شُجونُهْ…
وافْتِضاضُ الحُبِّ مِنْهَا
كافْتِضاضِ الُّلؤْلُؤِ المَكْنونِ
منْ قَلبِ المَحارَةْ
مِثلُ غَوصٍ في مُحيطٍ…
لَمْ نَصِلْ يَومًا قَرارَهْ
كاشْتِعالِ الجَمْرِ يَكْوينا…
ولاَ نَخْشى أُوارَهْ
مِثْلَ ثَغْرٍ تاهَ في حَرْفٍ…
فَخَانَتْهُ العِبارَةْ!..
أنا شاعر ملحاح ومعاند وهاذي.. هل الشعر إلا هذيان مقدس ونفحة من نفس الرحمان؟
إن الكلمة في الشعر هي زاد الطريق، والعبارة مطيتها نحو أفق لا نهائي. والمسافر على متنهما يراع لا يكل ولا يستريح، مداده عصارة فؤاد الشاعر، وحروفه احتراقات ذاته وامتدادات الآخر في دواخله المفعمة بالرقة والشاعرية والجمال. وكأني بالشاعر حين يكتب كمن يمضي في رحلة لسبر أغوار نفسه الرهيفة حين تتفيأ ظلال المعاني وترسم بألوان صاخبة وضاجة وبخطوط منمنمة وناعمة، اختلاجات الروح وهسيس الأنفاس في مجرى الكلم، ريشتها صدق المشاعر الوضيئة وألق الأحاسيس المترفة وروعة البوح في رحلة يعاندها غموض الأزمان، وتكتنفها ضبابية الرؤى، لكن الشاعر ملحاح وأكثر عناداً من كل المثبطات، حيث يشق طريقه على هدى من ضياء روحه الوثابة ونور قلبه الوضاح، فيبدع ولا يدري كيف ينساب ذلك الفيض من مورد عذب في دواخله المرهفة وكأنه يهذي، وهل الشعر إلا هذيان مقدس مثلما هو نفحة من نفس الرحمان؟.
أَقرِئيني بَعضَ شيءٍ مِثلَ وَحيٍ
مِنْ وَراءِ الغَيبِ يَأتي سَلسَبيلَا
أَسْمِعيني ذَلكَ الإِلهامَ عَلِّي
مِنْ رُؤَاهُ أَجْتَلي السِّرَّ المَهُولَا
هَلْ هُوَ الشِّعْرُ المُصَفَّى أمْ بَيانٌ
نُزِّلَتْ آلاؤهُ تَسبي العُقولَا
الشاعر طفل كبير تطورت ألعابه لكنه يحن إلى براءة طفولة برعمه النقي.. ثمة رسائل وإشارات كونية تجتاح الروح ولكنني بمبعثها المقدس أجدني ملوحا لها ومعاقرها كأس العشق النوراني
إن لحظة تنزل الشعر ليست دائما طوع بنان الشاعر والشاعر ما هو إلا إنسان تنتابه لحظات صعود وهبوط، وتغشاه حالات فيها من الإنسان قلقه وتوتره وصفاؤه وضعفه وعجزه، إلا أن تلك الصور الغامضة والرسائل المباشرة، هي في الغالب الأعظم إشارات لا يدري كنهها، ومعان قد تكون أعمق وأعقد من أن يقترب من محاولة تفسيرها، لأنها تأتي هكذا، ولك أن تسمها ما شئت، فهي تجليات شعرية، أو لحظات انعتاق من كل القيود الكونية. والشاعر كطفل كبير تطورت ألعابه لكنه يحن أبدا إلى براءة طفولة برعمه النقي.
لي هذا الكونُ وما فيهِ
أدخلُه مِن حيثُ أشاء
باباً باباً
إلا أنّي يوماً ما ضيّعتُ طريقي
نحوَ البابِ الأسنى وسلكتُ يباباً
قفراً وخَرابا
منْ يأخذُ منِّي كلَّ مفاتيحِ الطَّلْسَم
كيْ يُعطيني ذاكَ المِفْتاحْ
كي أَرجِعَ طفلاً تغسله الملأُ الأبرار
كيْ أهتفَ: يا مولايْ
كلّ الأبوابِ لغيرِكَ
كانتْ وهماً وسراباً.

22