المشيطي: في المقبرة.. الدموع لا لون لها

منذ خلقت والرياضة واحدة من مناشط أتنفس هواءها ممارسة ومتابعة، أنا كغيري أبدأ مندفعا لناد أشجعه وأنافح عنه، وأستجيب لضرورات التشجيع الاجتماعية فأكره الآخر المنافس (رياضيا فحسب) لتكمل في عاطفتي ضرورات التشجيع، عقل طري استجاب للمؤثرات الرياضية حوله فانساق خلفها.

مشجع (مراهق) مثلي ينحت ميوله بأدوات حادة يشتريها أو يستعيرها من آخرين يشاطرونه الاهتمام ويملون عليه لوحة تشجيع رسمتها أفواههم، وأيضا إعلام قد يجنح عن الحقيقة، فتكونت داخله صورة الميول كما يريد المجتمع، لا كما يفترض أن تكون المثالية.

التشجيع كسائر مناحي الحياة: الحضارية والثقافية والفكرية… إلخ، صناعة اجتماعية بحتة، يرضعها الفرد رضيعا فيشب عليها، يتعلمها طفلا، ويدافع عنها شابا، وينقح أفكارها المعوجة راشدا، ويحذر من أخطائها شيخا، أنا أخضع لهذه الدورة الحياتية، وأظن الآخرين مثلي، أستثني من يولد ويموت وهو والمراهقة صنوان لا يفترقان.

في مدينتي بريدة التي أسكنها الميول اختُرق فاحترق في حالات اجتماعية كثيرة، فيها اجتمع منسوبو الناديين المتنافسين الرائد والتعاون في موقف ترح أو فرح واحد، الجميع يلبس الثياب ذاتها، لا تحضر سوى وجوه بشر بريئة تنضح بالانسانية وتتجرد من الرياضية.

لا أذكر سوى موقف أهوج واحد نضح حماقة، كنا مجموعة من الأصدقاء نتدرب كرة القدم عصرا، ونجلس ليلا، حضر مشجع تعاوني يعرفنا فأخيرنا وهو يبتسم أن باص الرائد اقتلب وهو في طريقه إلى المدينة المنورة ليلعب مباراة هناك فمات صالح المبارك، فزعنا وكنا مجموعة من الرائديين والتعاونيين ونهرناه عندما لاحظنا ملامح الفرح بادية على وجهه، وكاد بعضنا يضربه!

خلال مسيرتي (التشجيعية) ظللت أتلقى صفعات تصحيحية جميعها تنبه وتحذر، آخرها وفاة لاعب الرائد محمد النودلي، رحمه الله، الموقف جمع منسوبي الناديين في مكان واحد لهدف واحد، مكانه مقبرة أو مستشفى أو صالة أفراح، في المقبرة دموع الحزن المتساقطة على قبر الميت لا لون لها، تختلط على ترابه لتبرد عليه، الاجساد تتلاصق لتواسي بعضها بعضا، فلا رجل أمن يحجز فردا عن الآخر، بين القبور لا توجد مدرجات، كلمات العزاء تبرد الأجساد لا تشعلها، وأصوات البكاء تعالج الجراح لا تدميها، الحزن يلف الوجوه جميعها فكأن تضاريسها في ذلك اليوم مرت بطقس واحد.

يتنافس منسوبو الرائد والتعاون داخل الملعب فيتقاتلون وكأنهم أعداء، ويتحابون خارجه فيتقاربون وكأنهم عشاق، عندما يحضر العقل ناضجا يتبخر الحمق، ذوو العقول الراجحة يضعون كل شيء في موضعه، فلكل مقام مقال كما يقول البلاغيون.

مقالة لكاتب خالد المشيطي عن جريدة الرياض

9