الشيخ يكتب عن مسك الختام

كان مشهداً مهيباً ذلك الذي كان عليه جمهور نادي النصر ليلة التتويج بالدوري، وكأني ب “جماهير الشمس” حين حضرت جموعاً ووحداناً من كل حدب وصوب أرادت أن ترسل أشعتها الذهبية في ليل الرياض البهيم حيث بزغ “قمر العاصمة” كما لم يبزغ من قبل، فكان المشهد سريالياً

جاء ذلك المشهد المهيب وتداعيات قرار نقل مباراة الفريق مع التعاون من بريدة إلى الرياض لم تهدأ بعد؛ وكأني بالنصراويين حينها أرادوا أن يبعثوا برسالتهم من وسط المدرج الأصفر ليقولوا فيها: اتفقتم أو اختلفتم مع القرار فيجب أن توقنوا أن مسرح التتويج ما كان ليكون مبهراً إلا بحضرة الشمس حيث أبت إلا أن تعانق القمر ليكون العالم شاهداً على حالة تفرد لا تحدث إلا حيث يكون الاستثنائيون!

والاستثنائية في صورة النصر البانورامية حضرت في كل أبعادها، مع الرئيس الذي وعد وأوفى الوعد، والمدرب إذ راهن وكسب الرهان، واللاعبون حيث قالوا فصدقوا القول، والجمهور الذي أكمل جمالية الصورة وأعطاها بعداً ما كانت لتكتمل الروعة بدونه.

الرئيس كان استثنائياً حيث أبى إلا أن ينهي فترته الرئاسية وقد حقق ما وعد يوم أن قال: أعدكم بنصر تتحدث عنه القارة الصفراء، فقط امنحوني ثقتكم وخذوا مني نصراً سيقال عنه “برشلونة الآسيوي”، نصراً يذكركم بالماضي الجميل، ويرسم لكم حاضراً أجمل.

القوم لم يمهلوه حيث تهامس القريب قبل البعيد، فهنا غامز، وهناك لامز، وكان لهم العذر فلا شيء يحرض على التفاؤل أو حتى يدعو للبقاء في جادة الانتظار، إلا أن فيصل بن تركي أدار ظهره ولم يلتفت رغم الحرب الضروس التي كان أشدها من الداخل حيث دعي للرحيل مرة واثنتين وأكثر بل رفعوا في وجهه “الكارت” الأحمر حتى ضج بالقول: من أنتم؟!.

الرئيس الاستثنائي وجد سنين رئاسته تنقضي وأيامها تتصرم فأوقف الكلام وجدّ في العمل فكان في هذا الموسم كشخص لم نعرفه من قبل، وما كنا نعلم أن هذا الصمت هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، تلك التي هبت كإعصار لم ينتهِ إلا وقد كشف عن بطولتين كبيرتين روى بهما القلوب التي أذابها عطش السنين واعتصرها وجع الحرمان.

أما كارينيو المدرب الأروغوياني الذي يحمل ملامح المحاربين الأغريق فقد كان بحق محارباً، وأي محارب!؛ إذ فتح له أكثر من جبهة حيث راح يقاتل فيها بحثاً عن الذهب الذي جاء به في وقت كاد النصراويون أن ينسوا لونه، فكان استثنائياً حيث رفض أن يكون مجرد رقم في قائمة المدربين الذين كانوا يتوافدون على النادي موسماً بعد آخر حيث نقش اسمه في الذاكرة النصراوية بصناعة جيل ذهبي وبإنجازين بحجم تاريخ.

استثنائية اللاعبين كانت لوحدها مشهداً آخر في تلك الصورة، فهذا الفريق تشخص في هيئة كتيبة حرب لا تقهر بما قدمه اللاعبون من مهارة فائقة، وعطاء مبهر، وروح وثابة، وعزيمة قوية، حتى استطاعوا أن يضعوا المشاهد في حيرة البحث عن نجم متفرد حين أصبحوا جميعهم متفردين!.

أما الجمهور فلم يكن في هذا الموسم طارئاً على الاستثنائية التي عاشها الفريق، فهو مذ كان ولا زال استثنائياً؛ لكنه أبى إلا أن يكون العلامة الفارقة في المشهد، وقد كان إذ ضرب كل الأرقام، وكسر كل المقارنات، وما مشهد ليلة التتويج إلا حالة شاعرية استثنائية قال عنها نزار قباني ذات عشق:

وأنتِ البدايةُ في كلِ شيءٍ..

ومسكُ الختامْ..

مقالة للكاتب محمد الشيخ عن جريدة الرياض

15