بتال القوس يصف المشهد :عندما غرد ياسر

بتال القوسإلى عهد قريب جدا، كان الاعتراف بضربة جزاء لصالح أي منتخب يواجه منتخبنا في مباراة ما، جريمة لا تغتفر في الإعلام. ودأبت بعض الصحف على سن أقلام كتابها ومحرريها تجاه صاحب الفعلة، حتى يتراجع ويعتذر، وكأنها تستتيبه قبل الحكم عليه بالخيانة. عن أي شيء يعتذر هذا الرجل الصادح؟ يعتذر عن اعترافه بالحق، أو على الأقل يعتذر عن جرأته في إطلاق رأي مختلف عن البقية!

الصحف نفسها، ذات المهام التثقيفية التنويرية المؤثرة في الأجيال لا تعلم أنها بذلك تدعم ثقافة القطيع التي يردد فيها العامة ما يقوله الخاصة حتى في أكثر الأوساط قبولا للرأي الآخر وأقلها تشددا عقديا – افتراضا – كالرياضة.

ولا يعرف التاريخ الرياضي، رئيس ناد خرج بعد مباراة لفريقه، واعترف بخطأ تحكيمي دون أن يجبره بآخر ضده في سياق اعترافه، بل المضحك أن رؤساء ومنسوبي العديد من الأندية إذا ما سألت أحدهم من هو لاعبك المفضل على مدى التاريخ؟ حتما ستأتيك الإجابة لصالح واحد من لاعبي فريقه، رغم أنه يسر في بواطنه غير ما أذاع، وأتذكر قبل سنوات كيف تلقى الأمير عبد الله بن مساعد هجوما كاسحا من أنصار ناديه وهو على سدة الرئاسة آنذاك، لمجرد أنه عبر عن ذائقته الخاصة بوضوح حين اختار ماجد عبد الله لاعبا لا شبيه له في تاريخ الكرة الخضراء.

أتفهم – إلى حد ما – ممارسة هذه الإقصائية العنيفة في المدرجات التي تسيطر العواطف على كل الأحكام الصادرة عنها، ولا أجد مبررا لرواجها بين أصحاب الفكر والقرار من رؤساء الأندية، بل إن ممارسة هؤلاء أدوارهم باستقلالية هو جزء من المسؤولية العامة التي تفرضها عليهم مقاعدهم العملية.

وحتى لا أظلم الصحافة وألقي بالمسؤولية كاملة عليها، وأكون عندها كما الرقيق الذي لا يكتفي بأن يكون رقيقا، بل يدافع عن الرق، من العدل الاعتراف أن هذه الممارسة ناتجة عن أسباب عدة في صدارتها التنشئة الاجتماعية، التي ترسخ تمجيد الذات وتسفيه الآخر، وأقرب مثال على ذلك سخرية أحد أصدقائي ذات نقاش حين قال: “عندما كنت صغيرا ومن كثرة مجالستي لجدي ومجلسه العامر ورواده من وجوه العشائر والأقارب، وما يدور فيه من حكايات عن بطولات خارقة لقبيلتنا، كنت أعتقد أننا لو حشدنا ونوينا الشر، متجهين إلى أمريكا ستسقط واشنطن في قبضتنا خلال ساعات”.

.. التنشئة الاجتماعية أيضا لا تترك خيارات للطفل الصغير، عليه أن يحب ما تحب العائلة كلها، وأن يكره ما تكره، ومن شذ، وصم بالعصيان ووسم بما يعزله عن الآخرين ويضعه في آخر الصفوف وأمامه مشوار طويل حتى يستعيد موقعه الافتراضي. بعد أن يغادر الطفل أسرته، المؤسسة التعليمية الأولى، ويلتحق بصفوف المدرسة، المؤسسة الثانية في المجتمع، يتحول إلى جسد يحقن بما لا يستطيع له رفضا، لا أحد يجيبه عن تساؤلاته، عليه أن يصدق قصصا خارقة لأبطال خارقين، عليه أن يقتل الاستفهامات في دواخله حتى لا يمارس معه الإقصاء باسم الدين، والعرف والوطنية أو أي شيء آخر، فيتحول المغلوب على أمره إلى كائن يتلقى وينفذ، وهو ما يسمى بالتعليم التلقيني، الذي ينتج جيلا تقليديا يفتقد للإبداع والتطوير.

كل ما قلته أعلاه، ظهر في أبشع صوره خلال ردة فعل الجماهير تجاه تغريدات النجم ياسر القحطاني، حين أعلن رأيا مستقلا في قضية نقل مباراة التعاون والنصر إلى الرياض. وبغض النظر عن صواب أو خطأ ما كتبه النجم ياسر القحطاني على حسابه في تويتر، إلا أن النجم الكبير أعجبني عندما قدم رأيه للجماهير على مختلف ألوانها، باستقلالية تامة دون تبعية لأحد أو مجاملة لآخر.

.. يبدو لي أن القحطاني يؤسس لثقافة جديدة في الوسط الرياضي، تنطلق من النجوم الأكثر تأثيرا في الشباب والمجتمع الرياضي، وهو في مقدمتهم، وما أحوج هذا المجتمع إليها دون غيره، مع تزايد الاحتقان فيه، وانتشار ثقافة الإقصاء في أغلب النقاشات الرياضية، حتى باتت العقلانية، لدى الغالبية مثالية زائفة وضعف بالغ.

الرياضة فروسية، تهذب رغبات وشهوات التدمير التي تسكن الأنفس الشريرة، فتحولها إلى منافسات تتسم بالروح الرياضية، يقول فيها الفائز للخاسر حظا أوفر، ويتلقى التهاني من الخاسر، والفائز اليوم سيكون خاسرا غدا، وهنا جماليات الرياضة التي تتغير فيها الأطراف وتبقى الأخلاق والثقافات والفروسية.

نقلاً عن الاقتصادية

12