بتال القوس يكتب عن ابراهيم غالب

رأس تنورة, مدينة وديعة, يسكنها أكثر من 70 ألف إنسان, تضم واحدا من أكبر مصافي النفط في العالم, وميناءين لشحنه, ومعملين للغاز وإنتاج الكبريت, وأكبر محطة بخارية للكهرباء في الشرق الأوسط. الأغلبية هناك يأتمرون بالشمس, يذهبون مع شروقها إلى حقول النفط والغاز, ويعودون وقد ابتلعت السماء قرصها الأصفر الوهاج المعلق بينها وبين الأرض.

الأجيال المتلاحقة في المدينة, توارثت الدقة في المواعيد, والجدية في العمل, متأثرة بثقافة العاملين في الصناعات النفطية ومؤسساتها وقوانينها الصارمة, وكذلك كان الفتى الصغير إبراهيم غالب المولود في جازان الذي عرفت قدماه أول خطوتين لهما على تراب رأس تنورة.

رحيمة سابقا, رأس تنورة حاليا, تُصدّر النفط لكل العالم, ولو تثاءبت يوما لأي سبب كان, غطى النعاس أجزاء كثيرة من هذه المستديرة. إبراهيم غالب في النصر كذلك, لو تثاءب في منتصف الميدان, أُصيبت شباك الأصفر, لذلك يصيح كارينيو باسمه كل خمس دقائق, لأنه يعلم أن جزءا كبيرا من مستقبله المهني معلق بقدمي هذا الفتى الأسمر النحيف.

للصدفة مواعيد باسمة في حياة غالب, أجملها قبل سبعة أعوام, حين اتجه نصراويان من العاصمة إلى الدمام لمراقبة لاعب ناشئ اسمه يحيى عتين سيلعب ضمن فريق رأس تنورة ضد أرامكو, بعد المباراة اختاروا اللاعب المجاور لعتين في منتصف الميدان, ذهب غالب إلى النصر في الرياض, وبقي عتين في الدمام ووقّع لاحقا للاتفاق. يقول رمانة الأصفر عن ذلك: “لم أكن حينها قد قررت أي مستقبل لي مع الكرة, ذهبت وأنا ابن السادسة عشرة للعاصمة, بقيت عاما كاملا لا أعرف إلا ثلاثة مواقع: مدرسة نجد، شقتي الصغيرة، ونادي النصر؛ اختزلت كل هذا العالم الكبير في هذه المباني الثلاثة فقط”. ويستمر: “رأيت صور نجوم النصر على بعض جدرانه وإنجازاتهم”, يستذكر الدهشة, ويتابع “قررت أن أكون مثلهم, لن أكون هامشيا, مر من هنا فقط”.

بعد 20 يوما على وجود الرجل ذي الشعر المجعد في النصر, وجه لغالب السؤال الاستكشافي التالي: مَن علَّمك واجبات المحور في كرة القدم؟ غالب يرد: لاعبي المفضل كان يلعب محورا, أحببت أن أكون مثله. ابتسم كارينيو وسأله: لماذا تمسك بالكرة كثيرا, هل تعرف أنك تضع السكين على ذقني؟ غالب يرد بعفوية هاوي: أنا استمتع بالكرة هكذا, لا أستطيع, هذه متعتي. كارينيو يقهقه: “ستقتلنا جميعا يا فتى”. منذ ذلك الحين بدأت الأيام في غزل علاقة من نوع خاص بين الفتى القادم من مدينة النفط والغاز, والأربعيني الآتي من مونتفيديو أكبر مصدر ومستورد للبرمجيات في أمريكا الجنوبية. بعد ستة أشهر قال له المجعد مرة أخرى: “الآن لدينا الوقت الكافي للتغيير, يجب أن تنصت لي جيدا, متعة الكرة في الانتصار, ومتعة الكرة الحديثة هي تأدية دورك بإتقان”, وتابع دانيال: “في مكانك يجب أن تلمس الكرة مرتين فقط, إن تعودت فستشعر بالمتعة أكثر, ما تفعله لا علاقة له بالعمل.. لنجرب طريقتي”. بعد شهرين, الفتى يقول لمعلمه: كوتش، أشعر بالمتعة فعلا, لقد تغيرت. يعرف إبراهيم غالب كل تفاصيل كارينيو العائلية, يحكي له دانيال عن أسرته الكبيرة في الأوروجواي, عن تاريخه الرياضي حين كان مهاجما بارعا, أخبره عن أول حب في حياته, عن أول مكافأة تسلمها, عن كل التفاصيل, خرجا أكثر من مرة لتناول العشاء معا, وبالمثل يفعل غالب, يقحم المعلم اللاتيني في كل تفاصيله الشخصية, الاثنان كلاهما يحب الآخر حبا جما. يفهمان بعضهما كثيرا, مشهد العناق بينهما بعد كل هدف لم يعد مستغربا, إشارات كارينيو من الدكة شفرات يفهمها غالب جيدا, وينفذها وسط الميدان.

ليلة التتويج بالدوري, التلميذ متشوق للنصر من أجل معلمه أكثر من نفسه, لشعوره بأنه يستحق هذه الجائزة أكثر من غيره.

بعد المباراة, دانيال يجلس على كرسي في غرفة الملابس, وغالب يمر من أمامه, يبحث عن الفرحة في عيني المعلم, والأخير يتعمد عدم النظر إليه مباشرة, يخفي شيئا لا يريد لقارئ الشفرات أن يراه.

قلت لغالب: ربما يخفي الوداع في عينيه؟ رد بسرعة كأنه ينتظر السؤال: نعم, شعرت بذلك. تهدل صوته وتحشرجت الحروف وتابع: لا أريد أن يرحل, هذا الرجل ساحر, إنه يمد يديه إلى دواخلي ويخرج أشياء جميلة لم أكن أعرف وجودها, كأنه يعرف مركز الطاقة في جسدي أكثر مني.

مقالة للكاتب بتال القوس عن جريدة الاقتصادية

9