“الإنسانوية” من سؤال فلسفي إلى قوة استعمارية
ياسر صالح البهيجان *

ياسر صالح البهيجان 

مصطلح “الإنسانوية” من أعمق المصطلحات دلالة وأثرًا في تاريخ الفكر البشري، منذ أن استحال من إجابة عن سؤال فلسفي يروم فهم “معنى الحياة” إلى ذريعة تستعملها القوى الاستعماريّة لبسط نفوذها بالقوّة العسكريّة بحجة فرض مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطيّة على شعوب العالم الثالث الموصومة بالتخلّف والرجعيّة.
الدول الاستعماريّة استطاعت توظيف مصطلح “الإنسانويّة” وإعادة تشكيله ليبدو أداة عسكريّة فاعلة تمحو بها إرث وحضارات مجتمعات بشريّة برمّتها، رغم أن مؤسسي المصطلح كانوا يسعون لبلورة مفهوم يعيد للإنسان إنسانيّته، ويقيه من استغلال القوى الاجتماعيّة والسياسية والدينيّة التي كانت تستعبده آنذاك.
نقطة الارتكاز التي اتكأت عليها القوى الاستعماريّة في حملاتها، هي أن “الإنسانويّة” تزدري علانية المجتمعات البشريّة الوفيّة لموروث أجدادها، وتحديدًا الموروثات الرافضة لأي تقدّم أو تجديد، وتصفها بالمجتمعات الدونيّة والمتخلّفة؛ لأنها لا تؤمن بحقوق الإنسان الكونيّة.
وانطلاقًا من هذه الفكرة بدأ المستعمر تحركاته لاحتلال عدد من دول آسيا وأفريقيا إبّان مراحل الاستعمار التي لا يزال صداها يتردد حتى بواكير القرن الحادي والعشرين، إذ تبرر دول كبرى تدخلاتها في شؤون الدول الأخرى برغبتها في نشر قيم الديمقراطيّة رغم أن حملاتها تخلّف مآسي إنسانيّة تتنافى ومشاريعهم المعلنة.
وكان مصطلح “الإنسانويّة” خلال مراحل نشأته الأولى متعارضًا مع ما تدّعيه القوى الاستعمارية، وشدد على أهميّة صيانة كرامة الإنسان وحريّته بمنحه حقّ إعادة مساءلة جملة من المفاهيم والقوانين والأعراف الاجتماعية والدينية والفلسفيّة، ليمثل بذلك ثورة فكريّة تسعى إلى تحرير الجنس البشري من القيود المناهضة لآليّات تقدّم المجتمعات الإنسانيّة التي لا يمكنها إحداث تغيير في التاريخ ما لم يحظَ العقل بحريّته المسلوبة.
وإن أردنا إدراك مفهوم “الإنسانويّة” الحقّة وليست تلك التي زيّفها الاستعمار فإننا سنعود إلى “بيك دي لا ميرندول” الذي وضع منذ القرن الخامس عشر الميلادي أسس المصطلح بإشارته إلى أنه “لا وجود لطبيعة إنسانية، ولا لأي نظام طبيعي يكون الإنسان ملزمًا بالامتثال لهما؛ بوسع الإنسان أن يتخلص من الطبيعة لأنه حر؛ ولأنه حر فله حقوق وله تاريخ”.
وبمقاربة ما قاله “ميرندول” وما يُحدثه الاستعمار من مسخ لهويّات الشعوب؛ فإننا نلحظ بونًا شاسعًا بينهما، إذا ما علمنا بأن الحملات الاستعماريّة في معظمها لا تلتزم بحقوق الفرد المستعمَر، ولا تأبه بالحفاظ على تاريخه وموروثه وثقافته.

9