الأسوأ من الجريمة تبرير فعلها

وجه أمير منطقة مكة المكرمة بالقبض على مجموعة المتحرشين بفتاتين في أحد متنزهات مدينة جدة، إضافة إلى التشديد الأمني على رقابة المتنزهات، وهذا يعني أن التحرش جريمة، وهو يعامل الآن كقضية أمنية تخول الشرطة بالقضاء عليها، فيما كان “تويتر” مساحة للجدل، إذ ذهب البعض إلى أن الفتاتين تسببتا في وقوع المشكلة مع المتحرشين، وكأن الذكور غير مسؤولين عن تصرفاتهم!، ما نتج عنه -لدينا- من تحديد للأدوار وفصل عوالم النساء عن الرجال، وتنميط الفكرة والسلوك لدى كل منهما.
تأتي نظرية تصف حالة “المرأة المحترمة” في ظل معيار محدد، وهي المرأة التي لا تخرج في تصرفاتها من القول أو الفعل إلى حالة الإنسان الطبيعي، إنما هي مقيدة في حدود الإطار الذي وجدت نفسها موضوعة فيه، وحينما تتصرف بطريقة لا يقبلها المجتمع -في نظريته التقليدية لما ينبغي أن تقوم به- فهي تخرج عن حدود الاحترام وتستحق حينها ما تتعرض إليه من المشكلات، وهذا في تصوري هو المنطلق الذي يتحدث به الذين يبررون جريمة التحرش مع الفتاتين، فبمجرد رؤيتهم للنساء في خارج “الإطار التقليدي” فكأنهن يعطين إشارة تسمح بالتعامل معهن كمن باع نفسه، بمعنى أن طريقة تعاملهن تبرر انتهاك كرامتهن الإنسانية.
هذه السلوكيات تحدث في إطار تفاعلي عاطفي، إذ إن المشاعر تتأسس لدى الفرد اجتماعيا، ولا تعبر عن حالات داخلية إنما تتكون على أنها معان ثقافية يتم إضفاؤها على الأحاسيس، وهذا يفسر وجود خلل في التنشئة الاجتماعية، فالرفض لسلوكيات التحرش لا يصل إلى تجريمه ما لم يتدخل القانون في ذلك، فضلا عن أن ثقافة التمييز بين المرأة والرجل والتحيز ضد المرأة كانت سببا في تطبيع هذه الانتهاكات، وعلى وجه آخر لا ننكر أن التحرش يصدر من الجنسين، لكنه أشد ضراوة من الذكور، بينما الفتيات يفعلن ذلك كرد فعل ناقم يتحدى الذهنية التي تبرز الذكور على أنهم الأقوى، وهذه الحالات يجب أن تدرس ويتم علاجها للتقليل من الظاهرة أو الحد من أثرها.
غياب القانون لدينا أدى إلى تأزم الانحطاط الأخلاقي، ما جعل الفرد يفقد المسؤولية تجاه تحمّل أخطائه، وهو بالتالي فقد التهذيب، والدور يأتي على تغذية التعاطف الأسري والتنشئة السليمة التي تحسن من مفاهيم الأبناء تجاه الجنس الآخر بعيدا عن عقد المجتمع، ومن المهم أن يدرك الفرد أهمية تقويم السلوك الذاتي، فهناك مرحلة يستطيع أن يدرك فيها الإنسان نفسه ويقوّم سلوكياته، وكل ذلك من السعي في تحقيق الارتقاء كمطلب حضاري وإنساني.

12